لا تبتلعني...


"يا رفيقي العزيز،
أنا أعترف بأني حرضتكَ على المضي معي إلى الأمام،
ومازلت أحرضكَ من دون أدنى فكرة عن مآلنا،
أو ما إذا كان علينا أن نكون ظافرَيْن،
أو خاضعَيْن تمامًا ومنهزمَيْن."

_والت ويتمان*(1)

_



 

ماذا عن آخر مرة سحبني فيها كتابٌ لداخلهِ، امم متى كانت؟

ومتى قرأتُ كتابًا، وأنهيتهُ في يوم واحد، متى آخر مرة، متى؟ 


الأكيد أني لا أتذكر، فبعد أن تتحوّل لناقد، ومدقق*(2)، وكثيرة هي أصوات رأسك؛ لن تستطيع أن تقرأ من باب القراءة، القلم عالقٌ في الفراغ بين سبابتك والوسطى. 

أن تقرأ لأنك بحاجة للقراءة، تقرأ حكاية كتابك دون أن تُقلقك فاصلة منقوطة حُوّلت لفاصلة، أو دون أن تسمع صوت أنفاس نقطة زائدة بعد علامة استفهام أتمّت التساؤل.

أن تقرأ الحكاية فلا يُزعجك خطأ مطبعيّ، أو سقطة نحويّة؛ فهذا ليس شأنك، وقد طُبع العمل، عليك بالقراءة، مرر النظر، هيا اقرأ. 

ولكنك لا تستطيع. أنا لا أعرفُ كيف أُعلّمُ نفسي قراءة الكتب، والأشياء دون الإطالة فيها؛ لعلهُ اضطراب داخليّ، ثم كيف أُسكتُ أصوات رأسي؟ 

صَه، صه، يا أصواتي الملعونة.


 صوت لا اسم له، يرتفعُ مرارًا، يقبعُ من سنوات في رأسي، أحيانا لا أعثر عليه في رأسي، وأحسبهُ قد تبخّر، أو انفلت من/ عن رأسي، فإذا به يفاجئني بعودتهِ، وأنه استطاع أن يأخذ صوتي الخاص، وما صوتي إلا هو! 

يجرّني التفكير لشواطئ بعيدة عن ساحل نفسي، يسحبني، مُنقادة بأثرِ فعلٍ بهيمنةٍ تضغطُ على نفسي، تجرّني ناحية بحرٍ زرقتهُ داكنة، بشمسٍ صفراء ملتصقة في فراغ في الأفقِ، الأفق المكسو بالضباب. 

أُقاوم الجرّ، أثرُ المقاومة على كعبِ قدمي: قشورٌ، وتشققات. 

تستسلم أناي، أُبصرني متهدلة، مجرورة لبحرٍ، يتلاطم موجه. 

في عمقِ بحرٍ، أمدّ يدي أمامي؛ اختفت يدي، فراغ. ابتلع الفراغ يدي، ابتلَعني. 

أيّها الفراغ الهائل

امنحني هبة البصيرة 

الدرب ضائعٌ

دلّني 

لأعود للبيتِ

العصافير اشتقتُها 

رائحة الخبز، أشتهيها

جائعة، خائفة

دُلني، أو قدني

لا تبتلعني

لا تبتلعني...


تأكلني أصواتي، أسمعُ بوضوح صوت قضمة، وطحنٍ، أسمعُ صوت البلعِ. لطالما كانت أصوات مضغ الطعام تُزعجني، راقبتُ طويلًا أفواهًا بشريّة، تمضغ وتلوك طعامها، الفم المقزز؛ هذا الفم الغريب الواسع، يبلعُ الأشياء، ماذا لو ابتلعني فمي، في ليلة شديدة الحلكة؟ من سينقذني من القطع، والمضغ؟ 


أطلتُ التفكير مرة في شكل القبلة، وكيف يُنفّذُ فعل التقبيل، ولم يقطع تفكيري غير حموضة ارتفعت من معدتي لحلقي، وتكدسّ قيء في فمي دفعة واحدة، أفرغتهُ في مغسلة الحمام، فكانت صور الذين قبّلتهم تسقطُ في فتحة التفريغ، فتحتُ صنبور الماء: إلى ما لا نهاية امضوا، إلى ظلام دامس. 


كانت تلك الليلة التي عزمتُ فيها أن لا أكرر فعل التقبيل مرة أخرى، ولتذهب القبلات بعيدًا، الأفواهُ مُفزعة. 

ومع هذا كررتُ ممارسة التقبيل، وكنتُ أُصارعُ في نفسي أصواتي؛ إن للصوت يقظة حادة، يبقى مستيقظا في أشد حالاتك التي ينفصلُ فيها وعيكَ عنكَ، أو تنفصلُ أنت عنه، وتبقى العاطفة متّقدة. ينبضُ الصوت، وقد تيقنتُ أنهُ_الصوت_ كائنٌ حقيقيّ، ولستُ أهذي، أو مصابة باضطرابٍ نفسي*(3)، ينبضُ، ويتدفق، ويقول في أذني: ما القبلة إلا أصل صورة الجوع، إنها الالتهامُ، اسمعي، هذا صوتُ المضغِ الأوليّ. 

أنفصلُ عن الآخر، مهما كان جنسه، وأصله، وانطوي على ذاتي، وإحساس بالقرصِ، يقرص أسفل معدتي جهة اليسار، آخ الميزوفونيا*(4) Misophonia...



لا أعرفُ كيف أخرجُ من روايةٍ، أو قصيدةٍ، كما يخرجُ الجميع من الكتب؟ 

إنّ أصواتي_ هو صوت واحد مشطور لعدة هيئات_ تُجبرني على الإنصات لكل الأصوات المضغوطة في الكتابِ الواحد، وحول ذكر الأصوات المضغوطة في الكتب:

كتبتُ وقلت من قبْل أنني أخشى وجود مكتبة في نفس المكان الذي أقضي فيه أكثر أوقاتي، وأعني غرفة نومي، أو البيت. وأنني أفضّل أن أقوم بحشرِ الكتب في دواليب مقفلة؛ حيث لا أرى الكتب مكشوفة أمامي، ولا تراني هي. 

يعود الأمر إلى أن أذني تسمع أصوات الكتب، وهذه ليست جملة شاعريّة، أو مجرد جملة اعتاد القراء على تكرارها لإيضاح مدى شغفهم بالكتب. إنني أسمع أصواتها، أسمع صوت الكاتب، وأصوات الشخصيات، أسمع كل الأصوت التي تحملهُا الرواية الواحدة، حتى لو كان الكتاب في مكانه. لا أحد يُدرك أني أُعاني من حالة انفعالية، واضطراب داخلي أثناء تواجدي في معارض الكتب، أو المكتبات؛ الكتب معروضة، مكشوفة، ملايين الأصوات تصل لأذني، كيف أتحمّلُ، كيف أُقاوم؟ من يستطيع إسكات هذا الضجيج؟ 


يأخذنيُ العمل الواحد لسفرٍ طويل، لم أفكّر يوما بالتعب المتراكم من كل هذه الأسفار، والرحلات؛ كيف تتعبُ وأنتَ من اخترت هذا العناء؟ هذا الشّقاءُ ملهاتك، أيّها الشقيّ، البائس. 











مساء الأمس(٦/ديسمبر/٢٠٢٠)، استيقظتُ من رقدةٍ لجأتُ لها هربًا من كآبةٍ ملتصقة بروحي ،وقد بدأت تتضخّم ،وخشيتُ أن تنفجر على هيئة صرخة غضبٍ، في وجه أول من يُصادفني. وما إن استيقظتُ وقد أناخ التعب ثقله عليّ، جررت قدمي لزاوية كتبي، طاف نظري على بعض العناوين، وقع على رابطة الشعراء الموتى*(5)، امتدت يدي له، سحبتهُ.. 

بكسلٍ قلبتُ صفحة الغلاف، بدأت بالقراءة. 

متى آخر مرة سحبني فيها كتابٌ لداخلهِ؟ 

ليلة الأمس حتما. رويدًا، رويدا جذبني الكتاب، حتى وجدتني في حكايته، كنتُ طالبًا في أكاديمية ويلتُن الخاصة، ولكن لم أكن متأكدة هل أنا واحدٌ من الذين كانوا في الحكاية، أم شكلا يتخيّلهُ القارئ ليشكّل مجموع صور الطلاب في العمل؟ 

حتى أكملتُ القراءة، وكنتُ تارة عددًا، ضمن مجموع أعداد، ربما كنت العدد سبعة بين مجموع الطلاب، وتارة كنتُ تُودْ أندرسن. 

كان صوت أندرسن حادًا في أذني، وإن لم يكن لهُ ذات الصوت في العمل، على عكسِ بقية رفاقه، جماعة رابطة الشعراء الموتى. 

لكن لماذا أندرسن، ألا يفترضُ أن أكون نيل؟ 

كان والت ويتمان يضحكُ كثيرا في رأسي، وكنتُ أتجاهل ضحكاته، وصورة له في رأسي بلحيتهِ الكثيفة، وقد اعتمر قبعته، ينظرُ في وجهي، وتجعيدة حول عينه اليمنى.

غرقتُ في القراءة، حتى تكاثرت أصواتُ رأسي، وعلت ضحكات ويتمان، وسمعتُ أنفاس جون كيتس تعلو وتهبط، كان في زاوية ما، يُراقبُ كلّ شيء، حدثت جَلبة، وارتفعت أصوات هتافات غير واضحة؛ كأنها هتافات ثورة ما! 

أنهيتُ القراءة تمام الثانية ما بعد منتصف الليل، وحرقة استعرت في جوفي، أجبرتني أن أدور في قلقٍ في الغرفةِ حول حولي، ضحْك ويتمان بدأ يخفت، يأتي من مكان قصيّ. 




_عائِشة سُليمان. 



*1_ للشاعر الأمريكي والت ويتمان، ترجمة: أمال نوار. 


*2_  حتى هذه الكتابة لابد وأنها تحوي أخطاء لغوية، ونحويّة، وإن كنتُ قد حرصتُ على أن أُمارس دور المدقق على ذاتي، ولكنها النكتة الحقيقة؛ صوت رأسي يزعجني، ويسألني مرارًا: هل كذا تُكتب كذا؟ أهذه الكلمة منصوبة أم مرفوعة؟ صدقيني هي مجرورة، توقفي عن إعراب الجمل، وهكذا حتى أتعب من نفسي، وأرمي بالنص بعيدًا عني. أمر آخر: أكثرُ من سيكتب كتابة بحاجة لتدقيق هم من على شاكلتي، نحن الحيارى. 


*3_ ما الضير في أن أكون مضطربة نفسيا؟


*4_ الميزوفونيا Misophonia: متلازمة حساسية الصوت الانتقائية (بالإنكليزية:Selective Sound Sensitivity Syndrome) وهو اضطراب عصبي، يتميز بردّة فعل انفعالية سلبية تجاه سماع بعض الأصوات المهموسة، خصوصا حس الأصوات في الفم؛ كالمضغ، والنفس، والسعال، وغيرها من الأصوات الخفية؛ كصوت الكتابة على لوحة المفاتيح، وصرير القلم.(ويكيبيديا). 


*5_ رابطة الشعراء الموتى لـ:نانسي. هـ. كليبناوم. ترجمة: أماني لازار. عن مؤسسة تُرجمان للترجمة والنشر. 




 

 







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"التّعبُ قصّة كاملة"/ قبالة التّعب، قراءةٌ في كتاب.

فارهو والصراع من أجل البقاء_ حول رواية دفاتر فارهو.

عيد ميلاد سعيد ماري.