"التّعبُ قصّة كاملة"/ قبالة التّعب، قراءةٌ في كتاب.



        "Tiredness has a broad heart" 

      _ موريس بلانشو.


المساءُ المكرر لنفسهِ مجددًا، الأمس ذات الغد، والغد ذات الأمس، والأمس ذات أمسه السابق، والأمس السابق ذات السابق، فالسابق، والسابق. طقسٌ يكرر نفسه، مع اختلاف بعض التفاصيل، وإنْ حدث ووقعتْ بعض الوقائع، فهو يومٌ حاول تجديد ذاتهِ، وأنتَ محظوظ(1)؛ ستحظى بتجربةٍ جديدة، ويلزمك النهوض. أنتَ تنهض كل صباح أو حتى بعد مضي منتصف النهار؛ فليس الجميع ينهض في هذا الزمن المضغوط في الوقت الذي تنهضُ فيه الطيور، وتغادر أعشاشها، خاصة وفي هذا العام، العام المعلّب؛ إذْ مع إطلاق العالم لصفارة الإنذار المعلنة عن تفشي وباء خطير، وسنّ قوانين الحجر والبعد الاجتماعي، عاد الجنس البشريّ للتقوقع في المنازل، والحُجرات، وكأننا نستعيد صورة من صورنا القديمة: صورة الحلزون/ أحبُّ هذه الصورة. 

 تشابهت الأيام، وبالكاد استعاد الأفراد أنشطتهم، واتسعت مساحات البقاء مع النفسِ، حتى ارتعب كُثر من ذواتهم، واستيقظت حواس قد خُدّرت لوقتٍ طويل، بعد أن استبدلها البشريّ بالآلات، وانتبهَ لتعبهِ الخاص. التّعب الذي أُلبَس الكثير من البدلات، حتى تغيّر شكله، واسمه، وبالكاد ينتبهُ له المارة، إذ يمرون ويعبرون كل يوم بعضهم البعض. بالكادِ يشمُّ شريكك رائحة تعبكَ، تعبكَ الخاص، وبالكادِ تنظُرُ في وجهِ تعب والدكَ، صديقك، زوجتك، أو حتى طفلك الذي يركض خلف كرتهِ، وأنت تشرب قهوتك، تُراقبهِ بعينٍ قلقة؛ أن لا يسقط، فيتأذى. 

تعبكَ الذي كبرَ معك، كم تبلغ من العمر الآن؟ تعبكَ قد يعادل عمرك، وقد يكون أكبر منكَ، وهذا أمرٌ سيكلّفك الكثير من الجهد حتى تعتقده، ثمّ تصدّقه؛ لكن هل تحسستَ لمرةٍ شكلَ التعب؟ هل جرّبت التّعرّف عليه؟ لعلّهُ صديقكَ القديم الأوليّ، الذي لم تجلس معه يوما على طاولة واحدة، أو لعلّك تعرف  فقط كم يبلغ من الحجمِ، فلربما خبرتَ الأمر وأنت مستلقٍ على سريرك، والظلام يلفّك، والكلّ نيام. 

بيتر هاندكه، الروائيّ النمساويّ عرفَ شكل تعبه، وصوّره في عملهِ النثريّ، حين كتبَ مقالة عن التعب، ضمن عملٍ أدبيّ، أقل كلمة ممكن أن تصف العمل: عبقريّ! 

في كتابهِ الذي بلغت عدد صفحاته الـ55 صفحة_ الكتاب الأول/ المقالة الأولى لكتاب ضم ثلاث مقالات أولها عن التعب، ثم عن الموسيقى، والثالث عن يوم ناجح_ والمترجم عن دار صفصافة وبترجمة الدكتورة رضوى إمام، والمعنون بـ: عن التعب، اختزل هاندكه سيرة التعب، في قالبٍ مقاليّ، وكتابة كثيفة، وبأسلوبٍ يكادُ يكون حينا "فاترًا"، باعثًا على السأم،وهو الأسلوب اللازم لهكذا عمل، فكان جسم العمل السؤال المُختلق، والمُستنبط، والإجابة التي بدت كمسارٍ لدراسةٍ تحليلية عن التّعبِ، أو سردٍ/حكي لسيرة التعب . 

قال مرّة المؤرخ جورج فيغاريلو فيما معناه بأن ( التعب قصة كاملة) وهذا ما أكّده هاندكه  في عملهِ، ولمْ يستعرضه بشكلٍ مباشر، وإن فعل؛ إذْ حوّل هاندكه سيرة تعبهِ إلى عملٍ يبدو كروايةٍ مستحدثة، لا تشبه الشكل المعتاد للروايات. 

بدأ بجملةٍ: "في الماضي دائِمًا ما كنتُ أخشى التّعب" 

التّعبُ هنا_ في الجملة_ لهُ صورة، تأخذ هيئة الأشياء المُفزعة، المخيفة، التي يخشاها الشخص، وهاندكه كان يخافُ، يفزعُ من التّعب، لِيفاجئنا هاندكه بسؤالٍ عبقريّ يجهلُ القارئ سائلهُ: "متى كان الماضي؟"

سؤال البدء، السؤال الذي طرحهُ القارئ نفسه، وكتبهُ هاندكه، كيف هذا؟  

اعتمدَ بيتر هاندكه على فكرة إقامة حوار بين الكاتب والقارئ، ضمن مساحة ماديّة، نأتي على شرحها لاحقا، ولكأن هاندكه كان يتدرّب بينهُ وبين نفسهِ على أمر ما؛ كأن يجرّب تفكيك ما لم يُفكك من قبل، رغم وجوديتهِ، وكينونتهِ. لعلهُ تمرين فلسفيّ للعقل، كممارساتنا لحل تمارين مسائل رياضيّة؛ سؤالٌ، وجواب. 


بهذه الطريقة جالسَ هاندكه تعبه، وبدأ بصورةٍ شخصيّة ذاتيّة، روحيّة، وجسدّية، "في وقت الطفولة، وفترة الدراسة، وسنوات الحبّ الأول". أثناء قدّاس منتصف الليل، وهاندكه الطفل، داخل الكنيسة، مع العائلة، شعرَ بشيء من التّعب، يتخلل هذا التعب قدر من المعاناة/ الإرهاق، إلى أن يسير بنا، مع السين والجيم المتسلسل، إلى صورة التعب في المجتمع/ الطبيعة/ الوجود؛ البدءُ بالصغير، والذهاب ناحية الكليّ. 

 يؤكد هاندكه في عملهِ بأن التعب حالة ميتافيزيقية، ولعلهُ يؤكد بعملهِ هذا مقولة المؤرخ، عن أن التعب في الأصل قصة كاملة، فالتعبُ من يصنع ملامح الأشياء، كما أتى على سردهِ هاندكه في عملهِ، وأكدّ على أنّ التعب يثيرُ الشعور بالشيء كما هو موجود في حد ذاتهِ، وأن التعب ليس مجرّد تجربة شخصية فرديّة؛ بل ظاهرة اجتماعية وتاريخيّة، وكأن التعب لازمٌ وجوديّ لإبقاء وجوديتك في العالم/ استذكرتُ روكنتان بطل سارتر في كتابه الغثيان

كان يلتقطُ بيتر هاندكه بطريقة شعريّة، التعب من الأشياء، مُتناغمًا مع التعب، حد أن يشعر القارئ بحجمِ هذا التعب، ويخبرهُ. ثقلٌ، لابد من تحريره، وعن تحويلهِ لتجاربهِ اليوميّة إلى تشريحٍ، واستكشاف رائع لعالم التّعب: التعبُ المشترك، تشكيل حكاية التعب من خلال أربع صور أتى على ذكرها هاندكه في عملهِ/ في الصفحة 39 فسّر هاندكه الصور


لكن ماذا عن المساحة الماديّة التي أقام عليها هاندكه عمله؟ 

لقد كان عبقريا، حين وضع المشي/ السفر، مساحتهُ التي أعطت التعب صورتهُ الحقيقية، التعب الجاثم على الأشياء، التعب المتجذر في الأشياء، الوجوديات، والكائنات. كان يحملُ كاميرا تلتقط التعبَ( الجزء)، من المجتمع( الكل). 

التّعبُ لا يكون في شكلهِ المنفرد، ولا يمكن أن يتحرّك أو يكون في الفراغ، أدرك هذا هاندكه، وأقحمنا معه في سيرتهِ، برفقةِ تعبه، تعبنا، وتعب الأشياء. أشركنا في الرحلة/الاستكشاف. 

_يقولُ بيتر هاندكه في الصفحة47: "فلتجلس هنا معي عند الحائط الحجريّ على الناصية، أو فلنجلس القرفصاء معا، على تلك الأعشاب في منتصف الطريق. تأمّل معي، صور  الـ( معًا)، وهي تتجلى لنا مع انعكاس الضوء. فبينما نحنُ على مقربة من الأرض ( ولكن على بُعد مسافة معقولة) نستطيع أن نرى اليرقة الزاحفة، والخنفساء التي تحفر في الرمل، مع النملة التي تعرج فوق الزيتونة، ولحاء الشحر الذي الْتوى وأخذ شكل البابيون".


"إنّ التعب يحكي قصّة الآخر" وهاندكه حكى لنا صور التعب، وتصنيفاته، وكيفية التعايش مع التعب، وتجاوزه، لقد صنّف التعب لعدّة أنواع، وحتما سيُجبر القارئ على رسم دائرة يكتب في فراغ وسطها: التعب، ثم تتفرع ثلاثة خطوط، الخط الأول: الاستهلاك، الثاني: المعاناة، والخط الثالث: إثباتُ الأنا.


 يخلصُ بيتر هاندكه إلى أن التعب، ليس كائِنًا وحشيًا، وليس حالة ضعفٍ دائمة، وأنهُ يمكن مصاحبة التعب، ومن خلال التعب يمكن تحقيق السلام اللحظي، ويمكن أن يكون تعبك ملحمتك المثاليّة، ويمكنك أن تصرّح بتعبكَ من الآخر، كما ذكر هاندكه في العمل، أو حتى تُجالس انفصالك عن حياتك اليومية المعتادة، وتحتسي قهوتك برفقة التّعب، الجالس في الكرسي المقابل لك:  لقد أدركتَ أن التّعب يعطيك شكلًا، وأننا " كلنا أسرى بداخل قالبٍ من التّعب"، و "سيظلُّ كلّ منّا وحيدًا مع تعبهِ الخاص حتّى النهاية".


    _ عائِشة سُليمان. 



× الهامش: 

1_ ما الحظّ الذي يجنيه أو يكتسبهُ الواحد إن صار في يومه حدث ما، وأغلبُ ما سيحدث أو يقعُ هو  في خانة الـ( ليتهُ لم يقع) حتى لو كان وقوع الأمر لحظتها أقلّ ضررا، وذات أثر مبهج، فهو بعد مدة من الزمن سيُحشر في ذات الخانة؟











تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فارهو والصراع من أجل البقاء_ حول رواية دفاتر فارهو.

عيد ميلاد سعيد ماري.