مرثيّة التأبين/ كتاب كارل: قراءة.
_ "في الأسابيع بعد ٩ تشرين الأول هذه السنة؛ وذلك يعني في أول يوم عدتُ فيه ثانية إلى الكتابة، وإن كانت بضع كلمات، بدأتُ أشعرُ بوجودهِ بصورة قوية. لم أشعر به في الأسابيع الأخيرة. أين هو؟ في اللا مكان. يفرض السؤال نفسه طوال الوقت، وليس هناك من جواب. أخشى أن أنساه. أن أنسى إحساسي بجسده، صوته، ضحكته. أخاف أن يتلاشى أكثر وأكثر ويختفي يوما بعد يوم. أن يختفي على إيقاع شفائي. أمر لا يُطاق. وربما الطريقة الوحيدة التي أتشافى بها."
ما كتبتهُ نايا في التاسع من كانون الأول ٢٠١٥، وقد أعلنت خوفها، الخوف الذي دفعها لكتابة كتاب كارل؛ خافت تآكل صورة كارل، ابنها الأصغر، الذي فقدتهُ في حادث مأساوي شنيع، في ليلة لن تتعافى ذاكرتها منها، مطلقا.
افتتحت العمل الأدبي بوصفٍ تفصيليّ هادئ النغمِ، لصورةٍ حركيّة لها مع ابنها الأكبر، وهما يتشاركان نخب ذاك المساء، نخب الحياة، نخب العائلة، قبل الهنيهةِ التي سيرنُّ فيها الهاتف: "من ذا الذي يتصل بساعةٍ متأخرة مساء السبت؟"
ودون إكمال الحكاية مباشرة، والإجابة على السؤال، تستذكر نايا حلمًا، كان يراودها، ثم تبدأ باستذكار تفاصيل ميلاد ابنها الأصغر كارل، في شكلِ دفقٍ سرديّ، يحاكي نمط الفلاش باك المستخدم في الأفلام، ميزةُ هذا الدفق السردي هو لغتهُ الشّعرية.
ثم يجدُ القارئ نفسه أنه متورطٌ في قراءة يوميات نايا، والنبش فيها، وبتعبير أصح، هي من نبشتها.
تنبشُ في الذكريات، في المادة المختزلة في الذاكرة، ويتخللُ النبش، استحضار اقتباسات لقصائد صنّفت ضمن أدب الرثاء، أو الفقد، ولم تزل نايا تراوح وتعود ناحية الحكاية، والتفاصيل التي بدأت بها عملها؛ تلك الليلة، والهاتف الذي رن، دون أن تجيب مباشرة على السؤال الذي طرحتهُ في البداية.
تأخذنا نايا بسردها في عملها الأدبي الذي كان صورة مماثلة للموج المتلاطم للبحر، لكل مكان، ثم لابد وأن يعود السرد مجددا حيث البداية. لم تستخدم خطًا منتظما في السردِ؛ إذ أنها لم تكن تحكي، تروي، تسرد، بقدر ما كانت تستعيدُ، وتستحضرُ الوقائع.
لهذا في عملها الأدبي، كان الزمن ينقسم لثلاثة صور: زمن ما قبل الحادثة( وقوع الفعل)، زمن الأحلام، والزمن الحاضر، ما نتج عنه صورة اختلاط الأزمنة، وتداخلها بزمنِ الحدث، واختلاط الحسيّ، بالعاطفيّ، والشعريّ بالسردِ؛ أي اختلاط الذاتيّ بالعام.
لغة متوترة، إسقاطٌ عجيب على الحالة الشعوريّة الفعليّة للحدث، للفردِ آن يقع عليه فعلُ الفقدِ.
مجمل عملها كان يتأرجح بين مشهد بلوغ الخبر، ومشهد رؤية الخبر، ما أعطى العمل صورة انطباعية للأبعادِ النفسية، والوجودية، والذاتية والعامة، لمشهدِ الفقدِ. هذا التأرجحُ كان يشبهُ شخصية كارل، كارل المشاكس، كما وصفته والدته، كارل مُنتج الأفلام، المهووس بالتفاصيل، كارل الذي يعرف جيدا أساليب القطع المستخدمة في منتجة الأفلام؛ ذات الأسلوب الذي استخدمتهُ نايا لتكتب عملها، وذات الأسلوب الذي يميّز الذاكرة.
كتبت نايا مرثيتها الأدبية، التي تبدو كَسيرةٍ ذاتيّة، شعريّة؛ لتنتشل نفسها من حزنها باللغةِ، ثم تخبرنا أن اللغة عصية في هكذا مصاب، لهذا لجأت لقراءة ما كُتب في جنس الرثاء، فبدت اللغة منجدًا وعزاءً، وفي الوقت ذاته كآبتها.
"إن الحزن ليس خطيا، إنه يأتي على هيئة رشقات نارية سريعة في بعض الأحيان ويبقى لعدة أيام، يتبدد، ثم يجدكَ مرة أخرى.."
هذا ما أثبتتهُ نايا، في الشكل البنائي الذي اتخذتهُ في عملها الأدبي، دفقات الحزن، كثافة التعبير، حزن لا يزول، جوقة الحزن الصاخبة، مذكرات من داخل الحزن، والغضبُ في الحزن.
كان هيكل النص الأدبي يُشبه الشجرة، الجذعُ هو القصة الرئيسية، والقصة تبدأ من لحظة تلقي المكالمة، وحتى ساعة إعلان الوفاة. أما تلك الاقتباسات الشعرية، والمقتطعات اليومية، والملاحظات، والأحلام، شكّلت صورة الأفرعِ للشجرة.
كانت تُكرر كثيرا الأحداث، مُثبتتة أن السرد يبني العمل من خلال التكرار، ثم أنها خافت ( النسيان). كان لازما أن تُعيد اختراع/ ابتداع غائبها؛ كي يبقى. كانت مُصرّة على إعادة بناء الآثار المروعة للحادثة، لحادثة الفقد. وإن كان يبدو النص مكسورًا إلا أن صورته هذه أعطتهُ الثيمة الحقيقية لهيئة الفرد في الحزن. أشبه بعمل فسيفسائي، محطّم، هش، متماسك في الوقت ذاته.
لم يكن هذا العمل سهل القراءة بالنسبة لي؛ كنتُ قد قررتُ قراءته لأعثر على مواساةٍ لحزني في فقد معلمتي، صديقتي التي غيّبها الموت، وكنتُ بحاجة للسلوى، فقلتُ في نفسي:
أليست قراءة من سبقونا وعاشوا تجربة الفقد سلوى للنفس؟
كان العمل بالنسبة لي، قصيدة ضخمة نثريّة، غابة ضخمة كثيفة، تضم الكثير من القصائد الصغيرة المتداخلة، إنهُ وصفٌ دقيق، مكتوب ببراعة، وحزن طافح، في الكيفيّة التي يُغيّر فيها الحزن من علاقة الإنسان بواقعه؟ كيف يُعذّب الحزن الذي ليس بحاجة لتسمية في هكذا صورة، فلسنا دائما بحاجة لتسمية الأشياء، الأحياء؟ كيف تتعلم العيش من خلال الحزن؟ كيف أنه وبالرغم من الخسارة، تحاولُ جاهدًا إخراج الحياة منكَ، إذ تتعلم كيف تُعيد الحبّ إلى الأحياء، إلى الموتى، والأهم إلى نفسك.
هذا ما يؤول إليه عنوان عمل نايا، العنوان المقتبس من القصيدة التي كتبتها قبل وفاة كارل بسنوات.
كانت نايا تتصالحُ مع الفقدِ، وتعترف به، وكانت بحاجة لأن تستعيد خلْق كارل، كارل حبيبها الصغير، خشيت تآكل/ تلاشي صورته في/ من ذاكرتها؛ فالحزن الطاغي/ والفقد الصادم قد يترك غبشًا على الصورة.
.
.
* ملاحظة: لم أشأ كتابة مراجعتي بشكلها المعتاد، إذ آثرتُ أن أكتب انطباعي المتدفق، بطريقة غير منتظمة؛ كعملِ نايا الأدبي هذا.
**عن الترجمة: أدهشتني ترجمة دنى غالي، لقد اختارت المفردات بعناية، خاصة وأن اللغة التي كتبت بها نايا هي لغة شعريّة، إن دنى كونها شاعرة فقد تحكّمت بالإيقاع الشعريّ في هذا العمل.
**عن الإخراج الفني للعمل: سيلاحظ القارئ أن الكاتبة استخدمت عدة أنواع من الخطوط؛ تعبيرًا عن مشاعرها.
غلاف العمل مثير جدًا.
_صدر العمل عن منشورات المتوسط.
_عائشة سُليمان_خَيَال.
تعليقات
إرسال تعليق