خواء / ما يشبه الحكاية (١)




كُلّ شيء في مكانه، الأشياء ثابتة، فقط الريح تمشي كيفما شاءت في المكان. لا أصوات، لا روائح، لا أحد. خواء.
صوتٌ يخرج من الدولاب، أحد ما يتحرّك. لطالما آمنتْ و أخبرتهم أن كل شيء يتحرّك، حتى الجمادات الساكنة تتحرك، حتى الكتب؛لكنهم ضحكوا عليها، مُشيرين لها ( بالجنون والعته).
حشرَتهم مرة في غرفتها وأغلقت كل شيء، كل شيء مُحكم الإغلاق، وقالت: احبسوا هذا النَفس النتن اللعين، لا تأتوا بحركة، وانصتوا جيدا؛ إنهم يتحركون، يسيرون.
في حركة جماعيّة وكأنهم اتفقوا واعتادوا على فعلها، كمموا أفواههم وأنوفهم براحة أياديهم ، وارتعشت السيقان في البناطيل. النافذة اتسعت عينها الهَرِمة، المروحة لوت عنقها لترى جيدا، الباب ابتسمَ مقبضه، والسرير لم يعر الأمر انتباها. وقفتْ هي عند الدولاب، في تلك البقعة الأكثر ظلاما، و أشارت بحركة رشيقة من يدها إليهم أن انتبهوا، الآن، لا تفوتوا المشهد.
حبسَ أحدهم ضرطة كادت تخرج من بنطاله، كثيرا ما كانت تستيقظ الغازات في بطنه ساعة قلقه. قال سرا في داخله: اللعنة، لن أمسكها هذه الضرطة اللعينة أكثر، ستُفجّر أمعائي لو حبستها؛ هذا ما قاله لي الطبيب. يا إلهي ستنطلق. انتظري يا ضرطتي، لثوان فقط، حتى يتم هذا الهراء السنويّ.
ومضتْ الساعة المعلقة في الجدار بضوء أخضر؛ إنها إشارة لمرور الوقت، الساعة العاشرة والربع ليلا.
مضت عشر دقائق على ولوجهم لهذه الغرفة، وانتظار الحركة، والضرطة في بنطاله تضخّمت وستنفجر.
أزاحت صاحبة الشعر البنيّ المسدول يدها عن أنفها وقالت: سنموت، ولا شيء يتحرك هنا.
صوت ضرطة تنفجر فتملأ السكون، وضوء حاد يُضيء يشقّ الظلام، وهي تصرخ في وجوههم: كان سيحدث الأمر، كانوا على وشك الخروج، كانوا يستعدون. آه لو أنكم لزمتم الصمت والصبر لدقيقة فقط، فقط دقيقة.
صاح في وجهها صاحب الضرطة وهو يمسّد بيده اليسرى مؤخرته وكأنه يزيل أو يدلل أثر الضرطة: معتوهة، ونحن حمقى. من يصدّق أمثالك؟  ثم خنق مقبض الباب بقوة، ولوى عنقه، خارجا من الغرفة وتبعه البقية.
تناسوا تلك الضرطة، ولم يُعقّبوا عليها، أو يسخروا منها كعادتهم، فأحسّ بالفخر لأول مرة، وتخيّل أنه يُعلّق ميدالية ذهبيّة تلمع في الشمس حول عنقه؛ لأن ضراطه لم يكن عاديا قط!
مشى مختالا بينهم، بينما بقيت هي، أمام دولابها، تنظر للذين استقروا فيه دون حركة.
نشجت وقالت: كان على أحدكم أن يخرج، أو يسقط حتى. لقد أفسدتم كل شيء.
 فجأة، شيء ثقيل سقط على قدمها، باعدت عن وجهها يدها؛ كتاب تعرفهُ جيدا،نظرت فيه دون أن تلمسه، ومخاطٌ يسيل على شفتها.  قلّب الكتاب صفحاته، واستقر على الصفحة ( ٣٠)
سمعت ضجة في كوب الأقلام، التفتت، فإذا بالقلم الأزرق يسقط على الكتاب الواقع على قدمها.
لكأن هناك يد خفيّة تحرّك القلم، وتخطط المكتوب.
انحنت لقدمها، للكتاب، لتمسك القلم. أمسكته، وابتسمت. عصرتهُ بين أصابعها، وعينها تسقط على الصفحة.
كُتب في الصفحة: ليلة شتويّة ناعسة، الذئاب لم تعد تعوي، الرجال توقفوا عن الشخير، النساء لايفكّرن باللذة، الأطفال قد ناموا، القمر في عطلة، النسيم يجلس عند البحر، يتسامران، الأشجار تبحثُ عن كلمات لأغنية الصباح، وحدها الكتب من استيقظت. في منازل الأغنياء الكتب تُدخّن الغليون، في منازل الفقراء الكتب ملتصقة بالنافذة تُراقب الخارج...  في الغرف المظلمة، بالرفوف الشاهقة، صُفّت الكتب؛ يشتمُ الكتاب في الرف العلويّ  الكتب في الرفوف السفليّة، لا أحد يُوقف الشتائم إلا الكتاب صاحب الغلاف الأسود، المنقوش عليه باللون الذهبي عنوانه، الصفراء صفحاته.  يستيقظ الأطفال في الساعة الثانية مابعد منتصف الليل، الريح تعوي في الخارج  لا لأنها تُحبّ العواء؛ ولكن لأن كل الأمهات سيخبرن أطفالهن قصة الذئب الذي يسكن في الخارج، ويبحث عن طفل مستيقظ يبكي؛ ليأكله!

قلَبتْ الصفحة، لتُكمل القراءة، صفحة بيضاء فارغة، وفي أسفلها قد دوّن الرقم المتسلسل للصفحات: ٣١.
تحكّ شعر رأسها، تزيد في الحك؛ تتذكر جيدا أن تتمّة ما لهذه الكلمات، لكنها لا تتذكرها. تعرفُ يقينا أن هناك كلمات أخرى، شيء يشبه الشّعر أو القصة، شيء لطالما شدّها وأفلتها من كل شيء،  شيء يشبه السرد، أو أنه السرد ذاته. لكنها لم تعثر على شيء!
قلّبت الصفحات، وهزّت الكتاب وقلبته رأسا على عقب، سقط القلم عنها، تنظر فيها كل الكتب، لا أحد يأتي بحركة، يشعرُ الكتاب بالغثيان بين يديها، فيحبسُه.. تعودُ مجددا للصفحة (٣٠) تقرأ المكتوب مجددا، ثم تقلب الصفحة لإكمال القراءة: فراغ، فراغ ، صفحات بيضاء فارغة، خاوية.
أين ذهبتِ أيتها الكلمات؟ قالت وهي تصرخ، وقد رمت بالكتاب بعيدا عنها، مُرتطما بالجدار، ليسقط مجددا وتنفتح صفحاته على الصفحة (٣٠)  ..

في السرير، لفّت نفسها بغطاء صوفيّ، يرتفع الغطاء ويهبط، تنشج، وتنشق، والنافذة تعبسُ، بينما مقبض الباب يفتح فمه ليقول كلمة، ثم يتراجع ويُغلقه.


.
.


_عائشة سُليمان/ خَيَال 

تعليقات

  1. كم هي جميلة تلك الحكاية (خواء )، استمري أيتها المبدعة ..

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"التّعبُ قصّة كاملة"/ قبالة التّعب، قراءةٌ في كتاب.

فارهو والصراع من أجل البقاء_ حول رواية دفاتر فارهو.

عيد ميلاد سعيد ماري.