بول أوستر مُحدقا في المرآة_ حول سيرته حكاية الشتاء.




لطالما طالك الفضول لقراءة سيرة كاتب وقعتَ في غرامه،ومازلت تفغر فاهك في كل مرة تقرأ له عملا ما. لكنك ما إن تقبض على إحدى كتبه المنتمية لجنس السيرة الذاتية، حتى تشعر بأنك تُمسك بين يديك بالكاتب الذي لطالما أحببته،ليس لأن الكاتب يقول الكثير في كتابه؛ولكنه أنت من بدأت ترى كيف يُعرّي هذا الكاتب ذاته في كتابه. إنه يقشر نفسه،من دون أي خوف قد يعتريه، ومن دون أن يشوّه الذات الكاتبة أو يُعكّر صفو الصورة الذهنية للمتلقي. وحده بول أوستر من يكتب هكذا. هذا ما رأيته. كتب يوميات سرديّة بتقنية الفلاش باك. حوادث عادية يومية قادرة على أن تقلب موازين حياتنا وأحلامنا، أوستر سلّط عليها الضوء.يرى أوستر أن السرد يبدأ أولا في جسده ومن جسده وينتقل من الطفوله، الصبا، إلى الشيخوخة. يمكن القول أن ما تركه أوستر في هذه السيرة هو صورة بانورامية للإنسان والحياة، والجسد، الروح، وللغريزة، وللشيخوخة كذلك. كل هذا قد وضعه في قالب سرديّ لاهث. هذه اليوميات كثيرة الحركة، بل إنها لا تكف عن الحركة، تقفز وتتحرك، وتتسم بالعاطفة التي لطالما حاول أوستر إخفاءها. سيجد القارئ أنه يقف في منتصف أزمة الموت التي إتّكأ عليها أوستر حين كتب كتابه هذا.حكاية طويلة من عدة حوادث، يستخدم أوستر ضمير المخاطب؛وكأنه يُخاطب ذاته، وهذا هو اللون الأدبي المفضّل لديّ؛ إذ دائما ما يجد الكاتب حينها أنه يستطيع قول كل شيء، وبسهولة ويسر في هكذا قالب أدبي.ما يميّز هذه السيرة أن أوستر مختلف كليا هنا_خاصة أنه لا يشبه أوستر في مذكرة اختراع العزلة_ مع هذا سيجد من قرأ أوستر بعمق، أن أوستر يجلس القرفصاء في كل صفحة.
كل ما سيجده القارئ هنا أن أوستر هشّ رقيق جدا، وأنه مهما كان روائيا متذاكيا في أكثر رواياته وخبيث؛ إلا أنه رجل خائف، يرعبه الشتاء. الشتاء هنا عند أوستر ليس مجرد فصل قد يُصيب جسدك ببعض الأمراض أو قد يكون الفصل صاحب اللون الأصفر؛ بل عند أوستر الشتاء كان فصله الذي أرعبه وجعله يقف أمام نفسه عاريا، ينظر لكل ندوبة، مستذكرا الحكايات، مُطيلا التفكير في ما بعد إنقضاء الشتاء، في عمره إن صح القول.الشتاء هنا كان قد جعل من أوستر أن يُمسك ملقطا ويُدخله في ذاكرته ليلتقط تلك الحكايات والحوادث التي عادة ما تهملها الذاكرة،وهي ذاتها الحوادث التي كانت سببا في التغيير.

ما أحسستُ به وأنا أقرأ هذه السيرة هو أنني كائن متطفل قد وقعت يده على مذكرة لرجل يدعى بول أوستر،ولأنني لم أستطع تجاوز الجملة الأولى في المذكرة فقد جلست القرفصاء وبدأت أقرأ، وأقرأ، دون أن أنتبه إلى أن صاحب المذكرة،المدعو بول أوستر يرقد أو يجلس في نفس المكان الذي عثرت فيه على المذكرة.

_عائِشة سُليمان _خَيَال.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"التّعبُ قصّة كاملة"/ قبالة التّعب، قراءةٌ في كتاب.

فارهو والصراع من أجل البقاء_ حول رواية دفاتر فارهو.

عيد ميلاد سعيد ماري.